Thursday 15 August 2013

تاريخ السحر والشعوذة في موريتانيا

1 الكتابة في علم “سر الحرف” كما يسميه الموريتانيون، أو “العلم المكتوم” كما يطلق عليه الباحثون الغربيون، مسألة تكتنفها صعوبات جمة لما يتميز به هذا العلم من غموض رافق نشأته وتطوره.

ويصر الموريتانيون المشتغلون في هذا الحقل على تسميته بـ”سر الحرف”، كما يتفقون على إيصال سنده بالصحابييْن الجليلين علي بن أبي طالب وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما. ويقولون انه من العلوم التي برع فيها أهل البيت وعرف عندهم بـ”علم الجفر”، بل إن بعض خبراء هذا الفن يفسر التكتم الذي رافقه بعلاقته القوية بالمذهب الشيعي. ويرى بعض الباحثين المهتمين بـ”سر الحرف” أن كلا من الشيعة والسنة أخذ هذا العلم عن الإمام جعفر الصادق.

وعلى كل حال فإن الإمام جعفر الصادق عرف بغزارة العلم وكثرة من أخذ عنه. يقول الحسين بن علي الوشاء (عانيا مسجد الكوفة): “أدركت في هذا المسجد 900 شيخ كلهم يقول: حدثني جعفر بن محمد”. ويروى أن جابر بن حيان ممن أخذ علم الرياضيات وصنعة الكيمياء عن الإمام جعفر الصادق.

ومع أن لكلمة “سر” دلالتها التصوفية، فإن هذا العلم في الحيز الموريتاني عرف بـ”سر الحرف”. يقول النابغة الغلاوي في رثاء شيخه أحمد ولد محمد العاقل:

من ذا الذي يعرف سر الحرف ++ فذاك ذو تصرف في العرف

لكننا ننبه إلى أن “سر الحرف” ليس سوى جزء بسيط من الكتابة الطلسمية التي تشمل علم الجداول والأوفاق، وعلم أسرار الحروف، وخواص الأشياء، وعلم الطلاسم، والاقترانات، والأنواء. ويتحدث عنه القرافي في كتابه “الفروق” قائلا: “اعلم أن السحر يلتبس بالهيمياء والسيمياء والطلسمات والأوفاق والخواص المنسوبة للحقائق والخواص المنسوبة للنفوس والرقى والعزائم والاستخدامات”.

إن تعدد مجالات هذا العلم وتعقده وغموضه تجعلنا نختار كلمة “الكتابة الطلسمية” للدلالة عليه. ويذكر الشيخ محمد مفتاح ولد صالح (وهو أحد العارفين بهذا العلم الباحثين فيه) تعريفا لسر الحرف ملخصه أنه “علم خصوصي للكشف عن مدلولات أسماء الله الحسنى وصفاتها وتصاريفها في المقتضيات الكونية لفك شفرة الكون التي تتحقق بها سنة الاستخلاف”.

نخبوية علم الكتابة الطلسمية

لم يكن هذا العلم ضمن برامج المحظرة المتاحة لجميع الطلاب، وإنما هو علم خاص لا يتاح إلا لبعض الطلاب النابهين الذين يبذلون جهدا نوعيا. وفي هذا النطاق تتنزل الحكايات المتعلقة بالصعوبات التي واجهها الشيخ سيديا للحصول على الإجازة في سر الحرف من شيخيه الشيخ سيد المختار الكنتي وابنه الشيخ سيد محمد الخليفه. كما تتنزل الحكايات المتعلقة بتلمذة أحمد ولد العاقل على شيخه في سر الحر ألفا ابراهيما وغيرها من الحكايات التي تتشابه في سياقها ودلالاتها. وقد أخبرني أحد العلماء الموريتانيين من ذوي الخبرة في هذا الفن أن “الشيخ ألفا عمر الغيني قال لتلميذه أحمد ولد محمد العاقل، لما أخذ عنه سر الحرف: سر الحرف سينه مهموسة، وراءه مرققة، إشارة إلى خصوصية هذا العلم”.

وقد احتل علم الكتابة الطلسمية مكانة كبيرة في قلوب العامة، وصلت حد الإنبهار حيث اعتبروه جزءا من الكرامة التي يحظى بها خاصة الأولياء والصالحين.

الكتابة الطلسمية: ممارسة قديمة في موريتانيا

رافقت الكتابة الطلسمية المجتمع الموريتاني عبر كل العصور والأدوار التاريخية. ويعتبر شرفاء كنار، الذين أسس جدهم محمد فال قرية “تيكماطين” قبل تسع مائة سنة من الآن،

( في حدود سنة 536هـ)، من أقدم الأسر الموريتانية التي عرفت بالخبرة الواسعة في هذا العلم. وقد ذكر الوزير القشتالي في كتابه “مناهل الصفا في أخبار ملوك الشرفاء” أن “الشيخ ابراهيم رضوان، حفيد الشيخ الكناري محمد فال، قام بدور كبير في مواجهة زحف السعديين تجاه بلاد موريتانيا الحالية. ويفهم من السياق الذي ورد في الكتاب المذكور أن ما أصاب الدولة السعدية من تشتت لرماتها وموت لملكها ناتج عن استخدام الشيخ المذكور لـ”سر الحرف”.

ومن المعروف أن السعديين زحفوا من المغرب في اتجاه الجنوب، ودمروا مدينة تمبكتو وصفدوا علماءها بمن فيهم أحمد بابه التمبكتي. ومن المتواتر في ولاية الترارزه أن قرية “تيكماطين” ظلت تنعم بالأمن في فترة السيبة ولم تتعرض لأي غزو وذلك بسبب تحصينها بـ”سر الحرف”.

* روافد الكتابة الطلسمية الموريتانية


يمكن أن نقول إن الرافد الكنتي والرافد الفوتي هما أهم تيارين انتشر عن طريقهما هذا العلم بموريتانيا. أما الرافد الكنتي فيمثله الشيخ سيدي المختار الكنتي وتلامذته من أمثال الشيخ سيدي محمد الخليفة، والشيخ سيديا والشيخ القاضي ولد محم، لكن الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديا برع فيه، وقد شرح المخمس ونظم جدول المثلث. وتواصلت الخبرة في هذا العلم في أبنائه وأبناء عمومته وفي تلامذته.


ساهم الرافد الكنتي في نشر هذا العلم بموريتانيا ومالي والسنغال والنيجر وليبيا والجزائر… أما الشيخ محمد المامي (الذي هو جزء من هذا الرافد القادري) فقد اهتم بعلم السر كثيرا، وله كتاب بعنوان “مقدمة في علم التربيع”، يصرح فيه بأنه بعد أن كرس ردحا من الزمن للبحث في علوم الظاهر نظما ونثرا سيتجه في آخر عمره إلى علوم الأسرار الموافقة لطبعه.


ويقول أيضا في “الميزابية” ما نصه: “وبقي من الحكمة الإسلامية الظاهرة أنواع منها أسرار الحروف، ومنها الجداول، وعلم التربيع، وعلم الكيمياء، وعلم الخواص التي لا تدخل تحت حصر”. وقد بين الشيخ محمد المامي في مواضع مختلفة من مؤلفاته أن “علم السر علم إنساني عالمي قديم قم الإنسان كالفلسفة والرياضيات وله قواعده، وتعلمه متاح لمن أراد الحصول عليه”.


وممن عرف بالخبرة الواسعة في هذا العلم، من مشايخ الشاذلية، لمرابط محمذن فال ولد متالي. وقد تكلم عنه في العديد من مؤلفاته، لكن انشغاله الأكبر كان منصبا حول مشروعية استخدامه.


أما بالنسبة للرافد الفوتي فإن من أهم مصادره بموريتانيا كل من الإمام عبد القادر كان والشيخ عمر الفوتي. وقد أخذ أحمد ولد محمد العاقل من هذا الرافد عن طريق شيخ غيني يدعى ألفا ابراهيم. وبعد أن عاد إلى بلاده أصبح من المتمكنين الراسخين في هذا العلم وله نظم في تنزيل جدول المربع: أي طريقة إنجازه، ومن آثار سر الحرف في مدرسة أهل العاقل الفوتية قول محمد فال (ببهاه):


أدخلت نفسي ومن خاللت من أحد


في الجيم والصاد من لفظ اسمك الصمد


ومن الأمثال التي رافقت تغلغل الكتابة الطلسمية بموريتانيا (سر الحرف) عبارة: “الحكمة كنتية أو فوتية”.


وإذا كانت الحكمة كنتية أو فوتية فإن الطريقة الفاضلية (نسبة للشيخ محمد فاضل بن مامين) القادرية، لسعة انتشارها، وكثرة مريديها هي الأخرى، أبرز ناقل لهذا العلم في المنطقة الإفريقية والمغاربية المحاذية لموريتانيا. ويقال إن مثلث العمر (مثلث لا يمكن إنجازه أكثر من مرة واحدة في العمر حسب ما يقولون) من إضافات هذه الطريقة، كما أن للطرق الصوفية الأخرى كالشاذلية والتيجانية مساهمات في نشر هذا العلم.


وعلى كل فإن هذا العلم لصيق بالطرق الصوفية، فمشايخها هم من بثه وألف فيه ووضع بعض جداوله وعزائمه وآدابه وشروط تعلمه، إلى أن أصبح مكونا هاما من مكونات الثقافة في المجتمع الموريتاني .

من العلماء الذين تعرضوا لهذا العلم وتحفظوا على الكثير من جوانبه (سدا للذريعة) سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم، فقد ناقش بعض متعلقات علم الجدول في كتابه “رشد الغافل”، كما أنه ذكر مسبع السلالة الذي قال إنه يكتب للشفاء من تعرض لـ”مص الدم”. ومسبع السلالة المذكور هو جدول من سبع خانات وأحرفه الموضوعة في خاناته هي سواقط الفاتحة، أي الأحرف التي لا توجد في سورة الفاتحة؛ وهي الفاء والجيم والشين والثاء والظاء والخاء والزاء،

ومنذ ظهر مسبع السلالة اهتم به الموريتانيون كثيرا لاعتقادهم في نجاعته لدفع ظاهرة “السل” التي يرجعونها لعملية سحرية، يمتص بموجبها “السلال” ما في قلب الإنسان من دم. ومن الملاحظ أن طبقية المجتمع جعلت “السل” يرتبط في ذهن الناس بشريحتي “العبيد” و”الحراطين”، وهي مسألة تحيل في رأينا إلى نوع من ممارسة الظلم الاجتماعي. وقد نظم محمد الحبيب ولد مايابه مسبع السلالة بقوله:


هذا مسبع لسحر دافـع++وإنه من بابه لنافـــع


وهو مجرب فقد جربته++ونفعه إذ ذاك قد وجدتـه


كيف لا وهو كلام طيب++والعلماء في أخذه قد رغبوا


وفيه أسماء لمولانا علا++يحصل نفعها لمن ذا استعملا


وهو مضاف لكلام الله++في خمس آيات على تناهي


إلى أن يقول:


تناسب الدفع لكل شر++لاسيما إن كان شر السحر


ولناظم آخر في ضبط مسبع السلالة:


وإن ترد لجدول الـسلاله++فخذه بالنظم وع المقالــه


مجدول مسبع بعد الآيات++معمر بذي الحروف بالثبات


علم الجدول:


يحتل الجدول مكانة كبيرة في هذا العلم، ويتخذ كل من الجدول والوفق شكلا هندسيا لكنهما يختلفان في مسائل، إذ يرتبط الوفق باقترانات فلكية، تتعلق بالطالع (التوقيت) والطيب المستخدم (البخور) وغيرهما من عناصر الوفق المعروفة في هذا الفن بـ”الزيجرة”، بينما يرتبط الجدول باستخدام أسرار بعض الحروف والأدعية إضافة إلى أنه يقوم على نظام حسابي مرتب، يُضعّـف من خلاله عدد معين للحصول على وضع قليل، وهو ما يسمى بالقوة. ولهذا حذر مشايخ هذا العلم من الاقترانات وما يتعلق بها من طالع نحس وسعد وصفات طلسمية، لأنها تدخل في نطاق فن ممارسة السحر المنهي عنه شرعا، ذلك لأنهم حريصون على الوقوف عند نهي الشارع وأمره. يقول لمرابط محمذن فال ولد في كتابه “فتح الحق” في معرض حديثه عن الأوفاق: “وهي لا تخلو من نوع ذم، إلا أن الذم فيها شديد حيث كان فيها رصد الأفلاك، كانتظار طلوع كوكب أو ساعة من ليل أو نهار، من غير توقيت من الشارع، بل بحسب نحوسة أو سعودة الأوقات باعتبار الكواكب، ونحو ذلك وكذلك إذا كان فيها تعوذ برؤساء الجن، فهو يجري على ما مر من التعوذ بمردة الجن، وما سلم من هذين الأمرين كان أخف، وذلك كتقطيع الأسماء في بيوت الأوفاق مع أن ذلك سوء أدب مع أسمائه تعالى، وفي الأسماء لمن صحت نيته وطابت سريرته بتقوى الله تعالى، دون تقطيع كفاية، لكن ينبغي مع ذلك مراعاة المناسبة في المعنى بين الإسم وما يستعمل فيه، ومراعاة عدد حروف الإسم. هكذا نصوا ولا ذم في هذا عند جميعهم، إلا من حيث تعلق بما يذم شرعا”.







Filed under: موريتانيا Tagged: موريتانيا

No comments:

Post a Comment